التقرير الأخير لوحدة مكافحة التجسس الإسبانية التابعة للمركز الوطني للاستخبارات الإسبانية (CNI) والذي اعتمده مجلس الأمن القومي الإسباني في آخر اجتماع له، حيث تم تأكيد حقيقة أن المغرب لا يمارس أيّ أعمال عدائية داخل التراب الإسباني، هو في نفس الوقت تأكيد على الموقف الثابت والمسؤول للمملكة المغربية إزاء هذه الاتهامات، التي روجتها جهات ودوائر معادية في الخارج بإسناد ودعم من طرف عناصر مشبوهة في داخل أرض الوطن، خدمة لأجندات خارجية لا زالت تحن إلى ماضيها الاستعماري، من خلال محاولات يائسة لتخريب العلاقات المغربية – الإسبانية ووقف المسار التصاعدي والمتميز لهذه العلاقات بشكل خاص بعد تجاوز المنحدر الذي اتخذته بعد “أزمة بن بطوش” الشهيرة.
هذا التقرير هو الرد الأوروبي المناسب على سياسة عدائية مستمرة أصبحت تشكل مشروع عقيدة دبلوماسية دائمة، تنتهجها أطراف فاعلة في المجموعة الأوروبية مختبئة وراء ستار المنظومة التشريعية الأوروبية، لاتخاذ قرارات ومواقف وكتابة تقارير معادية بهدف الضغط وتحجيم الدور الإقليمي والدولي المتصاعد للمملكة المغربية، فما يحققه المغرب من إنجازات تنموية في ظل الاستقرار وسط مناخ إقليمي وعالمي مضطرب، يجعله مستهدفا بشكل دائم من طرف الدوائر الاستعمارية الجديدة بغية فرض إملاءات تخدم مصالحها الضيقة، باستخدام شماعة حقوق الإنسان وقضايا حرية التعبير والهجرة ومقاربة النوع وحقوق الأقليات، واتهامات لا أساس لها بالتجسس ومحاولة اختراق منظومات سياسية استنادا على مزاعم غير حقيقية ومعلومات مغلوطة وغير موثقة، مصدرها منظمات خارجية فاقدة لكل مصداقية وتقارير شركات حقوقية عابرة للقارات، تخدم مصالح محاور عالمية وكذلك مقاولات حقوقية محلية تخدم أجندات محلية.
اتهامات التجسس التي روّجتها جهات معادية للمغرب، كانت جزءا من مخطط كبير ومؤامرة كبرى يستهدفان الشراكة الإستراتيجية المغربية – الأوروبية، والدفع لمواجهة جيوسياسية مغربية – أوروبية بأبعاد متعددة واختلاق أزمة سياسية توقف المسار المتميز للشراكة الإستراتيجية القوية بين المغرب والاتحاد الأوروبي، المطبوعة بالندية والموثوقية والمصالح المتبادلة والقيم المشتركة، لذلك رغم محاولات التشويش استمرت العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وبروكسل، مرتكزة على بعدها التاريخي المتفرد وحجم الملفات المشتركة وأهميتها الموضوعة فوق طاولة صناع القرار السياسي سواء في الرباط العاصمة أو في باقي العواصم الأوروبية، وهي أزمة مفتعلة استطاع الجانب المغربي إدارتها باقتدار كبير مرتكزا على الثبات الانفعالي والهدوء الإستراتيجي، وعلى التزامه الدائم بالثوابت المؤسسة لعقيدته الدبلوماسية كالوضوح والشفافية والمسؤولية والتمسك بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والمساهمة الفعالة في الحفاظ على السلام والأمن العالمي والإقليمي.
هذا التقرير هو نهاية لأوهام مروجي الفكر التيئيسي والعدمي، ولحظة سقوط الأقنعة عن بعض الوجوه المغلفة بالنضال والوطنية لمناضلي اليوتيوب وتجار الأزمات، الذين ارتضوا أن يكونوا لعبة بائسة في أيادي مخابرات دول معادية من أجل استهداف صورة المغرب والإضرار بأمنه القومي والتأثير على المصالح العليا للشعب المغربي.
فحملة بيغاسوس كانت مؤامرة متكاملة الأركان بأبعاد متعددة وبأهداف محددة، من خلال استهداف أحد أهم عوامل قوة المملكة المغربية إقليميا ودوليا، والمتمثلة في النموذج الأمني المتفرد بأسلوبه المهني وحرفيته العالية ومشاركته الفاعلة في الحفاظ على ميكانيزمات الأمن البشري في منطقة جغرافية تعج بالمخاطر المهددة للأمن الإقليمي والدولي، سواء مكافحة التنظيمات الإرهابية أو الميليشيات الانفصالية والتهديدات المرتبطة بالتنظيمات الإجرامية العابرة للقارات والهجرة والتهريب.
واستهداف النموذج الأمني للمملكة المغربية ظل هدفا مستداما أمام بعض الدوائر الدولية عن طريق ترويج الأكاذيب، ونشر الأخبار الزائفة، وتمويل الحملات الإعلامية المغرضة، والعمل على رسم صورة مغايرة لأسلوب عمل الأجهزة السيادية والأمنية والمصالح الخارجية المغربية، بالسعي لمحاصرتها ميدانيا وتضييق المساحات والساحات الجيوسياسية لاشتغالها، حيث لا يخفى على متتبع بأن الأجهزة السيادية المغربية التي طالما مارست مهامها الوطنية بكل مهنية والتزام أخلاقي، وساهمت بشكل جدي ولا زالت تساهم في بناء منظومة أمنية إقليمية متكاتفة ومتضامنة، وبانخراطها الدائم في كل المبادرات الوطنية وفوق الوطنية المساهمة في تحييد جميع أشكال المخاطر العابرة للحدود والأنظمة التي تهدد الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي بمختلف أبعاده.
فالمملكة المغربية تتعرض منذ عقود لتحرشات تستهدف أساسا وحدتها الترابية والوحدة الوطنية الجامعة، سواء بتسخين جبهات اجتماعية بتواطؤ مع تجار الأزمات ومروّجي الخطاب التيئيسي والعدمي وبقايا أيديولوجيات يسارية، أو مريدي فكر خرافي غير واقعي ومتلاشيات عشرين فبراير، أو باستخدام الطابور الخامس من الجواسيس ومن والاهم في داخل الوطن وخارجه، لخلق أزمات خارجية وإنهاك المغرب دبلوماسيا، بهدف الإجهاز على مشروعه الوطني التحرري والتدخل في شؤونه الداخلية والمس من استقلالية قراره السيادي.
وبالعودة لمؤامرة بيغاسوس، وفي محاولة لتفكيك شيفراتها وخطورة امتداداتها الداخلية والخارجية، نجد أن المملكة المغربية طوال تاريخها الممتد عبر قرون واجهت وستواجه عدوا خارجيا متعدد الأوجه بهدف وحيد وأساليب وأدوات مختلفة، حاول بشكل دائم تقزيم طموحات الشعب المغربي وعرقلة مساره التاريخي المتميز تحت قيادة الدولة العلوية. الفكر الاستعماري وإن غيّر أسلوب اشتغاله، من قنبلة الموانئ والحصار والمؤامرات الكولونيالية مرورا بالاستعمار المباشر وبالاستغلال البشع لمقدرات الوطن طوال عقود، اليوم يعود إلى استخدام أسوأ الأساليب باستخدام أدوات بشرية من تجار الأزمات ومن مرتزقة بوليساريو لاستهداف مؤسسات الوطن وأمنه واستقراره خدمة لأجندات خارجية وإقليمية.
منذ بداية المؤامرة، كانت المملكة المغربية واضحة في مواقفها حيث لجأت الدوائر المعادية إلى أسلوبها بتمويل حملات التضليل ونشر الأخبار الزائفة والتضخيم الإعلامي المبالغ فيه لاستهداف مؤسسات الدولة ومصداقية عقيدتها الدبلوماسية، بسعي هذه الدوائر إلى بناء صورة ذهنية حول المغرب كنظام شمولي متآمر على محيطه الخارجي، من خلال السعي للإضرار بمصالح دول الجوار باستخدام البرمجيات الخبيثة للتنصت على الأصدقاء قبل الأعداء، وهو الأمر الذي فنّدته الوقائع والأحداث اللاحقة بعدم تردد الدولة المغربية في الالتجاء إلى القضاء في أكثر من عاصمة أوروبية ضد كل من تجرأ على المغرب والإضرار بمصالحه، من منطلق ثقة المغرب الكاملة في نزاهة مواقفه ولإدراكه العميق لخطورة التداعيات الممكنة لهذه الأكاذيب على مستقبل علاقاته الخارجية مع شركائه الموثوقين.
لا يمكن فصل مؤامرة بيغاسوس عن النجاحات الإقليمية والدولية التي حققتها الدبلوماسية المغربية في السنوات الأخيرة، وتمكّنها من إدارة العديد من الملفات الأمنية الإقليمية بدعم وتأمين من طرف الأجهزة السيادية والمصالح الخارجية المغربية، واليوم بعد توضح جزء من خارطة الطريق المغربية، سواء من خلال المبادرة الملكية بالانفتاح أكثر على الفضاءات الأطلسية متعددة الأبعاد التنموية، أو بتعميق علاقاته الإستراتيجية مع جواره الإقليمي من خلال شراكات إستراتيجية فاعلة، كالاحتضان المشترك للعرس العالمي لكرة القدم عام 2030 مع مدريد ولشبونة، ومشروع الربط القاري بين المملكتين في مضيق جبل طارق، وأنبوب الغاز الأفريقي – الأطلسي ومشروع الربط الكهربائي المغربي – الأوروبي، وغيرها من المشاريع العابرة للقارات.
فالنجاحات التنموية الإقليمية للمملكة المغربية كانت رسالة صريحة إلى المجتمع الدولي، بأن التسوية الإقليمية المرتكزة على ثلاثة مبادئ هي الأمن والسلام والتنمية وفق الرؤية الملكية أفقدت الدوائر الإقليمية المعادية ثباتها وقدرتها على تقدير موقف متناسب مع التطورات الإيجابية المتلاحقة، التي يحققها المغرب في إدارة العديد من الملفات الإقليمية بالكثير من الذكاء والهدوء الإستراتيجي، حيث ظلت خطوات الفاعل المؤسساتي المغربي طوال سنوات تحكمها بروتوكولات صارمة تعتمد على التشبث بالشرعية الدولية ودعم جهود السلام العالمي والإقليمي ودبلوماسية تصفير المشاكل، وفتح الحوار المسؤول والصريح والمواجهة الحازمة بكل شرف وأمانة في إطار القانون الدولي الإنساني والأعراف الدولية ضد كل من تجرأ على معاداة المغرب، أو القيام بأعمال عدائية تستهدف الأمن القومي للمملكة.
هذا التقرير يأتي في زمن انتخابي، أوروبيا، على بعد أشهر قليلة من انتخابات البرلمان الأوروبي المزمع عقدها في الفترة من 6 إلى 9 يونيو 2024، ومن المتوقع أن تكون هذه الاستحقاقات واحدة من أكثر الانتخابات إثارة للجدل في تاريخ البرلمان الأوروبي، يعود ذلك إلى صعود حظوظ الأحزاب اليمينية المتطرفة في استطلاعات الرأي وتقارير أغلب مراكز البحث والتفكير الإستراتيجي؛ من جانب آخر فهذا التقرير ينهي عمليا الجدل داخل أروقة البرلمان الأوروبي التي تحاول بعض الأطراف الإقليمية تحويله إلى محكمة أوروبية مفتوحة لإدانة المغرب والتأثير عليه لابتزاز مواقفه الثابتة ومبادئه الراسخة في معالجة العديد من القضايا المشتركة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، كملف الهجرة والتبادل التجاري واتفاقيات الصيد البحري والفلاحة وملف حقوق الإنسان وغيرها من الملفات المشتركة.
كما أن هذا التقرير، بالنظر إلى الموثوقية التي تتميز بها الجهة التي أصدرته، سيشكل بلا شك أحد العوامل المساعدة للكتل الأوروبية والأحزاب الصديقة للمغرب في الاتحاد الأوروبي من أجل تعزيز شراكتها مع الرباط وفتح آفاق جديدة للتعاون في جميع المجالات، ومن المنتظر صدور تقارير مماثلة لأكثر من جهة في الاتحاد الأوروبي تؤكد على ما ورد في التقرير الإسباني، حيث سيشكل هذا التقرير دافعا أخلاقيا أمام العديد من الأطراف في الاتحاد الأوروبي التي صدّقت الأخبار الكاذبة والروايات المضللة التي وجهت أصابع الاتهام بغير دليل إلى المملكة المغربية.
منذ سنوات عايشنا معارك دبلوماسية وسياسية كبرى خاضها المغرب بكل جرأة متسلحا بثبات موقفه والتزامه الكامل بمبادئ القانون الدولي الإنساني ومقررات الأمم المتحدة والتفاف شعبي مستدام حول الرؤية الملكية التي يستمد منها الفاعل الدبلوماسي إستراتيجية الفعل ورد الفعل المناسب في الزمان والمكان المناسبين، والحمد لله كل هذه المعارك تنتهي بانتصار الشرعية التي تمثلها قيم المملكة المغربية ومبادئها.